قصص الاستاذ جميل فرنسيس مراسلكم ناظم هرمز جكو
قصص الاستاذ جميل فرنسيس مراسلكم ناظم هرمز جكو
قصص الاستاذ جميل فرنسيس مراسلكم ناظم هرمز جكو
قصة قصيرة ..
حلـــم بعيـــد المنــال
كان فقيراً معدماً من عائلة كادحة ، يعيش مع أفراد أسرته الكبيرة ، في بيت متواضع قديم .. كانت جميلة مدللة ومغرورة من عائلة صغيرة ميسورة الحال ، تسكن منزل كبير وحديث ، وهما معاً على مقاعد الدراسة في مدرسة مختلطة منذ سنوات ... لقد كان يهمه أمرها ووجودها كثيراً ، يحبها بصدق ويتابعها بنظراته العميقة التي تشوبها مسحة من الحزن والتمني .. وفي المقابل كانت تبادله نظرات الرضا والعطف والشفقة احياناً ، والإطمئنان كونها تسأله العون والمساعدة بحكم العلاقة التي تربط أسرتيهما أحياناً أخرى ، وكثيراً ما كان يهب مسرعاً متفانياً لتقديم المستحيل لها ولو على حساب جهده وراحته ، كان يتفاخر أمام أقرانه المعجبين بروعة جمالها من إنه الوحيد الذي ينال إهتمام التلميذة المدللة ... مرت سنوات عديدة وإنتقل الإثنان إلى مرحلة دراسية متقدمة وكان كلما يكبر يكبر حلمه معه ، ولا زال يتمناها بل ويغار عليها حتى من نسمة هواء عليلة ... وفي ليلة حلم وردية زفوها له .. كان سعيداً إلى درجة لا توصف متيماً بها ، دخل معها عش الزوجية الساحر ألذي طالما تمناه .. بدأ بخلع عنها إكليلها ومن ثم ثياب عرسها الفاخرة برفق، أخذ يقبل كفيها ويضمها بحنان إلى صدره ويتنهد بشوق ولهفة عارمين ، حتى إذا إنتهى من تجريدها من من ثيابها بالكامل حملها بكلتا يديه لكي يضعها على سرير لويس السادس عشر الملكي ليمارس معها الحب ، وما هي إلاً قبلتين منه على رقبتها حتى دبّـت في الغرفة خربشة الجرذان العابثة بأواني الطبخ المتسخة ببقايا طعام العشاء ، حتى إستيقظ مذعوراً من حلمه ، فوجد نفسه قميئاً متكوراً متدثراً ببطانية متسخة وغير واضحة الألوان لقدمها .. فصاح وهو ما زال بنشوة الحلم .. الله ..الله .. ما أجمل هذا الحلم الذي رأيته ..؟! ثم بدأ بشتم ولعن الجرذان الوقحة التي بددت عليه حلمه السعيد .. وفي الصباح الباكر كان في إنتظارها وكالمعتاد على طريق المدرسة ، وحين إقتربت منه إنبرى لها مستجمعاً كل جرأته وشجاعته ليفاتحها بموضوع حبه ولوعته وما يضمره لها منذ سنوات ، وبدأ يقص عليها الحلم الذي رآه تلك الليلة ، وهي مندهشة من كلامه الغريب وغير المتوقع ، فصاحت بوجهه مستنكرة حديثه ، ناعتة إياه بالجنون ، نافرة عنه مبتعدة بخطوات سريعة ، في حين ظل هو واقفاً مكانه وسط الطريق مصعوقاً من ردة فعلها ، حينها إنحدرت من عينيه دمعتين حارقتين على خده بعد أن مات الحب في قلبه وتبددت آماله .. ولم يبق من حلمه غير نظرات وعبرات ....
جميــــل فرنسيـــس
الأم ذات العين الواحدة
يطفر الدمع من عيني كلما أتذكر أمي ، أو تصادفي واحدة من حاجياتها ، أو صورة قديمة لها ، من صورها المعدودات ...، عندما أعود قليلا لأيام شبابي التعيسة ! .. ولكنه طيش الشباب ، لا يتحمل وزره سواي .. فأنا الملام في كل شيء ...
أمي كانت بعين واحدة
لقد كرهتها
كانت تسبب لي الكثير من الإحراج ... كانت تعمل منظفة في مدرستي الابتدائية ، وتخدم بجد من اجل ديمومة حياة الأسرة ، بعد أن فقد والدي في الحرب ...
ذات يوم بينما كنت بالمدرسة المتوسطة قدمت أمي لتلقي علي التحية ، ولتحضر الاجتماع السنوي مع إدارة المدرسة ...
لقد كنت محرجاً جداً .. كيف استطاعت أن تفعل هذا بي ...
لقد تجاهلتها , احتقرتها ... رمقتها بنظرات حقد ... و هربت بعيداً
باليوم الثاني أحد طلاب فصلي وجه كلامه لي ساخراً
" إيييييييي , أمك تملك عيناً واحدة "
أردت أن ادفن نفسي وقتها , و تمنيت أن تختفي أمي للأبد
فواجهتها ذلك اليوم قائلاً :
" أن كنت فقط تريدين أن تجعلي مني مهزلة , فلم لا تموتين ؟ "
مكثت أمي صامتة ... و لم تتفوه بكلمة واحدة ..... !
لم أفكر للحظة فيما قلته , لأني كنت سأنفجر من الغضب ،
كنت غافلاً عن مشاعرها ..
أردت الخروج من ذلك المنزل , فلم يكن لدي شيء لأعمله معها ...
لذا أخذت أدرس بجد حقيقي , حتى حصلت فرصة للسفر خارج البلاد لإكمال دراستي
بعد ذلك تزوجت .. و امتلكت منزلي الخاص ..
كان لي أطفال و كوّنت أسرتي
كنت سعيداً بحياتي الجديدة
كنت سعيداً بأطفالي , و كنت في قمة الارتياح
في أحد الأيام ..... جاءت أمي لتزورني بمنزلي
هي لم تراني منذ أعوام ... و لم ترى أحفادها و لو لمرة واحدة
عندما وقفت على باب منزلي , أطفالي أخذوا يضحكون منها
لقد صرخت عليها زوجتي بسبب قدومها بدون موعد ، ولم تقدم لها الترحيب اللائق ، كانت زوجتي تكره أمي كثيرا ، وتتكبر عليها ، ولم أحاول ثنيها عن كرهها لأمي ، مقابل حبها وتعلقها بأسرتها ،
" كيف تجرأتي و قدمتي لمنزلي و أرعبت أطفالي ؟ "
" أخرجي من هنا حالاً "
أجابت بصوت رقيق " عذراً , آسفة جداً , لربما تبعت العنوان الخطأ "
منذ ذلك الحين ... اختفت أمي
أحد الأيام , وصلتني رسالة من المدرسة بخصوص حضوري مجلس الآباء والمعلمين ، في ذلك الحي القديم أو القرية ، كعضو شرف ..
لذا كذبت على زوجتي و أخبرتها إني خارج في عمل مهم ..
بعد الانتهاء من الاجتماع ... توجهت لمنزلنا العتيق حيث نشأت
كان فضولي يرشدني لذلك المنزل ..
احد جيراني أخبرني " لقد توفيت والدتك ! "
لم تذرف عيناي بقطرة دمع واحدة ، لأني كنت أواصل الدراسة في الخارج ، في حينها
كان لديها رسالة أرادت مني أن اعرفها قبل وفاتها
" أبني العزيز , لم ابرح أفكر فيك طوال الوقت , أنا آسفة لقدومي لبيتك
و إرعابي لأطفالك ,
لقد كنت مسرورة عندما عرفت انك قادم بيوم اجتماع مجلس الآباء والمعلمين ,
لكني لم أكن قادرة على النهوض من السرير لرؤيتك
أنا آسفة ...
فقد كنت مصدر إحراج لك في فترة صباك
سأخبرك ...
عندما كنت طفلاً صغيراً تعرضت لحادث و فقدت إحدى عيناك
لكني كأم , لم أستطع الوقوف و أشاهدك تنمو بعين واحدة فقط
.. لذا فقد أعطيتك عيني ...
كنت فخورة جداً بابني الذي كان يريني العالم , بعيني تلك
مع حبي لك ... أمك
سقطت جاثيا على ركبتي ، وقد انهمرت عيناي دموعا ونحيبا نادما على ما فعلت في حق أمي التي جعل الله الجنة تحت أقدامها أعوذ بالله من عقوق الوالدين واعلموا أن ما نفعله فيهما قد يعمله معك أبنائك فيك إن براً فبر وان عقوق فعقوق والله أعلم و احكم سبحانه ،،، (( فكما تدين تدان)) .
... رضا الوالدين يا أحباب هو غاية سامية دعا الله عز وجل عندما قال (( وبالوالدين إحسانا )) فلنعمل ما في وسعنا من أجلهما ...
أعداد وتصريف \ أبو فادي
الواجب الطارئ
جميل فرنسيس
كانا قد اتفقا من حيث المبدأ .. وبقي عليهما التنفيذ .. عندما جثا المساء على بيوت المدينة ، والجو قد خلا وصفا لهما ليمارسا الحُب .. كانت قد خرجت لتوّها من الحمام.. وكحّلت عينيها ، وعطرّت جسدها البظ باطيب عطورها وصبغت شفتاها بالاحمر القاني ، ومسحت وجنتيها بنفحة من الوردي المعطر ، ثم اتشحت بثوبها الأحمر، الحريري الشفاف كالزجاج ، حتى اصبحت آية من الحسن والجمال .. لا بل حورية من حوريات البحر .. وكان هو يومئذ قد عاد للمنزل مبكرا ، واغتسل جيدا .. وبعد تناول وجبة عشاء ٍ دسم ، واحتساء قدح ٍمن الشاي .. ، ثم بعد استراحة قصيرة ، باغتته بعطرها الفواح الذي ملأ الغرفة وجمالها الاخاذ .. ، نهض من كرسيه الوثير ، وبدأ يتلمس جسدها منبهرا بروعتها وجمالها الفتان ، وكأنه يراها لأول مرة ..، كيف لا ، وهو الذي أمضى الليالي الطوال من سني عمره في الواجبات والخفارات الليلية بعيدا عن زوجته الشابة ، في خدمة الوطن ...! وحين ضمها الى صدره طبع بعض القبلات على وجنتيها ، منتشيا ، وهو يستنشق رحيقها ، ولما أراد أن يلثم شفتيها المكتنزتين بقيلة الحياة ...!!! رن جرس الهاتف فجأة ... رفع السماعة منزعجا .. متوعدا المتصل ، وردّ بصوت عال.. الو .. الو من أنت .. ثم رقت نبرات صوته حين عرف ان المتصل هو مسؤول بارز.. اهلا سيدي .. اهلا استاذ .. أهلا تفضل استاذ .... ثم تكلم الأستاذ الكبير ...( اسمع هذا التبليغ. عليك الحضور فورا الى المقر ، وان تأخذ معك عشرة من المقاتلين الجيّدين وتتجه بسرعة إلى النقطة ( ب ) في المواضع الامامية خارج المدينة ، وان تمارس الخطة الامنية الليلية بدقة ، لأن الرفيق الاعلى في طريقه إلى هناك ليرى الخنادق والاستحضارات المعدّة لصد الإنزال الجوي الأمريكي ..مفهوم..؟) ...
- مفهوم .. أستاذ ...
انتهى البلاغ ... خرج المقاتل المتفاني مع قوته القتالية ، ونفذوا ما مطلوب ، وهم يرتعدون من البرد داخل المواضع البعيدة في العراء .. وهم يحتضنون البنادق تحت جنح الظلام .. لكن المسؤول الكبير لم... ولن يأت أبدا ...!
وظلت هي تنتظر عودته بكامل حلتّها حتى الصباح ...
ذكريات في زمن ألحرب
هدوء العاصفة
السماء داكنة مكفهرة ... الظلام ينتشر سريعا على هذه السواتر الترابية القذرة ، والمعفرة برائحة البارود والشعواط والاحتراق ... ، والليل تقدم نحونا من جهة الشرق ، وبدا الظلام يبتلع كل شيء .....
ولجت إلى داخل ملجأي المحفور في باطن الأرض وأشعلت قنينة الكيروسين كي لا يغمرني الظلام ، فتوهج ضوء خافت ، فضح محتويات الملجأ المؤثث بالرصاص وشواجير بندقيتي التي أسميتها (صبيحة) ! ، كونها تلازمني ليل نهار وتعايشني في السراء والضراء.. وكانت القصعة مركونة قرب فتحة الدخول إلى الملجأ ، وظهر يطغي الذي ما زال مرزوما بأحكام ... ، واحمد الله لأني وجدت صفيحة من الجينكو داخل الموضع.... فمن يدري ، ربما كان هذا الملجأ الراقي لآمر الحظيرة أو رئيس عرفاء السرية ، بسبب وجود تلك الصفيحة المثبتة على أ كياس الرمل بعناية... فتحت يطغي فوق الصفيحة ، وقبل أن استلقي عليه ، لاحظت شيئاً يدب بسرعة ليتوارى عن ناظري ، فأدركت على الفور من إنها عقربه !...سحبت طرف البطانية بقوة ، فسقطت العقرب على الأرض فسحقتها بكعب بسطالي الثقيل فتحولت إلى أشلاء ممزقة...
فتحت جعبة الأرزاق وهي عبارة عن حقيبة من قماش مخملي ، وجدت بداخلها أربعة صمونات (صمون الجيش ) نصف يابسات مع أربعة ( رؤوس حربية) من البصل الأبيض مع حبة طماطة (مسحوقة) ! كانت زمزميتي مملوءة بماء شبه ساخن .. ، ولا أمل بالقصعة وقت العشاء في هذه الليلة ، وربما حتى نهار الغد ، كوننا استلما هذا القاطع اليوم ، وقبل ساعتين بالتحديد ... ولأنني دائما أفضل موضعا انفراديا على الاختلاط بهؤلاء الجنود الثرثارين في فوج المغاوير، الذين كنت أعتبرهم أسوأ شريحة في الجيش ... ، وكنت حال وصولنا لهذه الأرض قد قسّمت أفراد المفرزة الطبية الذين هم بإمرتي على سرايا الفوج الأربعة ... إذ كان العدو الإيراني يعلم باستلامنا نحن المغاوير هذا القاطع .. وكان يتوجس من وجودنا وحذرا جدا منا ، كوننا لقنّاه دروسا بليغة في معارك سابقه ، ولكن بين آونة وأخرى يطلق علينا بعض قذائف مد فع الهاون ( 106) ملم ، لجسّ النبض ومعرفة رد فعلنا وعددنا ،لكونه أي العدو الإيراني ، لا يبعد عنا غير مسافة 500الى 600متر ، ويفصلنا عنه بعض السواتر الترابية ، وارض مفتوحة ، (حقل ألغام) متنوع الأنواع المضاد للأشخاص والدروع والعجلات ، ومشاعل العثرة ...
عند التاسعة مساء أصبح الظلام حالكا كثيفا ولأن العدو يختار الليالي الداكنة المعتمة للهجوم دائما ، وفي وسط ذلك الصمت والسكون سمعنا فجأة صوتا مدويا ملأ الأرجاء وبنبرة متناغمة واحدة .. كان هناك آلاف من جنود العدو ، محتشدين وهم يصيحون (الله أكبر .. خميني رهبر) (الله أكبر.. خميني رهبر) ، عم فيض من الخوف والذعر بين صفوف جنودنا الذين لا يتجاوز عدهم ( 350) مقاتل مقابل هؤلاء الآلاف من جنود الأعداء ! .. في هذه الأثناء جاءني مراسل الآمر وهو ينادي بأسمى من خارج موضعي ، بأن السيد الآمر يطلبني فورا..! ، تقدمني المراسل ، وأنا أسير خلفه بتوجس ، و لما حضرت أمام السيد الآمر ، كان بصحبته في الملجأ السيد المساعد مع آمر سرية المقر ، وكان مرتبكا خائفا من الهجوم المرتقب .. ثم بدأ يملي علي بعض الأوامر ، بخصوص الحيطة والحذر واليقظة والاستعداد الكامل ، وأنا اردد نعم سيدي ..حاضر سيدي ..صار سيدي ، لكنه طلب مني حبوب الإسهال بصفتي مسئول المفرزة الطبية في الفوج ، لأنه منقولا حديثا في وحدتنا ولم يشهد معارك كبيرة في السابق..وليس لديه خبرة في قيادة المعارك ، أصيب بالإسهال ، وتلك حالة معروفة ، ومشخصة ، في الجبهة ..
ذهبت إلى الموضع وفتشت بين عدة الإسعافات على حبوب الإسهال ..ويا للمصيبة.. لم أجدها ، لأنني كنت قد نسيتها في الموقع الخلفي !!
ماذا عساي أن أفعل يا ترى أمام جبروت وغضب الآمر !؟ ولكني وجدت بعض من حبوب الفاليوم رقم 2 وهي شبيهة بحبوب الإسهال فوضعتها في كيس صغير وذهبت بها إلى السيد الآمر ، وكان مازال يزعق ويزبد كالطبل الفارغ بحضور أمراء السرايا .. ورئيس عرفاء الوحدة ، تناول الكيس ، وفتحه ،وابتلع أربع حبات منه دفعة واحدة مع قدح ماء ، وأومأ لي بطرف سبابته بالانصراف ، فعدت مرتبكا إلى موضعي .. تتقاذفني الهواجس والأفكار ، أنا لست خائفا من الهجوم المرتقب بقدر ما كنت خائف من افتضاح أمر حبوب الفاليوم التي قدمتها بدلا من حبوب الإسهال... ! وبعد دقائق قليلة سمعنا دويّ انفجارات عنيفة في ارض العدو .. ، حيث دكت قواتنا الصاروخية تلك الحشود المتجمعة بصواريخ ارض ارض وحولتهم إلى شتات وهباء في أرضهم قبل قبل الشروع بالهجوم علينا .. في صباح اليوم التالي وفي الساعة العاشرة صباحا ، كانت جهام الشؤم قد انقشعت ، ولاحت الشمس من وراء نتف الغيوم الهاربة المندحرة والسماء زرقاء صافية ، فسمعت صوت مراسل الآمر مناديا يدعوني للمثول أمام سيادته ، وبالسرعة الممكنة ، فراودني الهواجس والقلق والخشية مرة أخرى ، وقلت في نفسي (جاءك الموت يا تارك الصلاة ) ، ولكني عندما دخلت ملجأ السيد آمر الفوج وجدته باشا ضاحكا مرتاحا ، وهو يتكلم مع آمر الفوج الثاني بجهاز الهاتف ، ولما انتهى من كلامه ، نظر إلي ، وناولني ظرف مختوم ، وقال (اذهب مع عجلة الأرزاق إلى وحدة الميدان وأحضر لنا ظماد الميدان ووزع لكل مقاتل قطعة )..ثم أردف بعد صمت قليل .. و قال (أشكرك على الحبوب. . لقد أ فادتني كثيرا وأنقذتني من الإسهال)... تناولت منه الظرف وأديت التحية العسكرية، واستدرت إلى الوراء ، خرجت من عند الآمر.. وأنا مدرك ومتيقن جدا من انه كان فعلا بحاجة إلى حبوب الفاليوم وليس حبوب الإسهال.
جميل فرنسيس
شرق البصرة 1987
مـــــرقــة هــــــواء ..!!
جميل فرنسيس \بطرية صواريخ مق ط 36\ عام 2001
غروبٌ قاتمٌ .. والظلام حلّ علينا سريعاً .. السماء ملبدة بغيوم سوداء داكنة .. المطر ينهمرُ بغزارة فوق الصفيح ألذي يغلفُ سقف غرفتنا وكأنه ينقر بأنامله عازفاً لحناً يشبه نقرَ العصافيرْ ... كنا ثلاثة من أصل ِ واحدٌ وعشرونَ مقاتلاً ، تم تنسيبنا من قبل دوائرنا ألتي كنا نعمل بها عنوة لإداء واجب الجيش الشعبي (المقدس) ..! ... ولأننا لسنا من القوات النظامية تمَ عزلنا كالبُرص في هذه الغرفة المنفردة المنعزلة ، وألتي كانت فيما مضى مخزناً للسكراب والإطارات المستهلكة لعجلات الزيل وراجمات الصواريخ . كان البرد قارصاً ونحن وسط مساحة قاحلة واسعة ، غرب مدينة كركوك ، واليوم هو أول أيام عيد الفطرْ ... المقاتلون الثماني عشر الآخرون غادروا منذ الأمس ، متملصين بطريقة أو بأخرى بالتنسيق مع آمر الوحدة إلى منازلهم ، وهم الآن يقضون فترة العيد بين أولادهم وزوجاتهم دافئين هانئين بما لذ ّ وطاب من الأطعمــة . أما نحن الثلاثة .. فلا واسطة لدينا عند أحد ولا جاه ولا مال ... ولا قابلية لنا على التملق .. حمدنا الله لوجود المصباح الكهربائي المتوهج ألذي ينير غرفتنا ويكشف ما فيها من محتوياتٍ رثـّـةٍ ، ولكي نميـّـز أنفسنا عن الكائنات الأخرى , ارضية الغرفة يكسوها رمادٍ محترق وبقايا وقود .. وفيها خمسة أسرة حديدية محطمة ، وهي مثبتة على كتل ٍ خرسانية ( بلوكات) ، فرشنا فوقها ما تيسر لنا من فرش ٍ وبطانيات ، وحين نضطجع عليها لا تكف عن الإهتزاز والزعيق .. مجيد ماجد (مقاتل) من محافظة ذي قار ، كان متمدداً على أحد الأسرة في زاوية الغرفة متدثرٌا ببطانيته الرثة حتى قمة رأسه .. بايز عز الدين (المقاتل الآخر) وهو تركماني من كركوك يقبع أمام الموقد (المدخنة) ألتي تتوسط الغرفة ، ألتي هي عبارة عن وعاء حديدي مجوفْ مجبول بالطين الأحمر ، يتصل بأنبوب طويل يخترق سقف الغرفة ... وكان بايز العجوز ( هكذا نسميه) يلقم المدخنة بأعواد الحطب الرطب وبعض الأوراق والنفايات لكي يبعث فيها الروح والدفأ ، وليعد لنا إبريقاً من الشاي للعشاء المرتقب ، والدخان الأسود المنبعث في أجواء الغرفة نستنشقه مكرهين ليستقر دافئاً في صدورنا ... حينما كان المطر يشتد وطأة ً بقطراته المتسارعة الثقيلة كانت بضعة غير قليلة من قطرات المطر تتسلل عبر الفتحات الكثيرة في الصفيح أعلى الغرفة فيندي أسرتنا لنضطر إلى تغيير مكان أسرّتنا ،واللّوذ من زاوية إلى آخرى .. وحين تسقط تلك القطرات على أنبوب المدخنة الساخن تبدأ بالغليان والتبخر محدثة صوتاً أشبه ما يكون بصوت أزيز الرصاص .. باب غرفتنا معمول من صفيحة برميل قمامة مفتوح ، ومثبت إلى ألواح خشبية .. وفوقه يتدلى مصباحنا العزيز متوهجاً .. ينظر إلينا بعين ٍ فوقية حمراء شامتاً بنا ، كونه يمنحنا نوره مجاناً ، ونحن أيضاً نقدر له ذلك العرفان مذعنين .. على يسار الباب توجد صفيحة فارغة مقلوبة على رأسها نستخدمها لجلب الماء .. تناثرت على قاعدتها بعض بذرات الطماطم الملطخة بالوحل ، وبذرتان من الباذنجان وبعض أصابع الفلفل الحار كنا قد جلبناها صباح ذلك اليوم من مزرعة مجاورة .. ومن أهم الأمور ألتي كنا نعتز بها في غرفتنا ( القصعة) المركونة في إحدى الزوايا ، حيث ما تزال بقايا الطعام عالقة بها منذ وجبة الغذاء ، كما وتوجد طاولة خشبية صغيرة عليها خمسة أقداح شاي وخمسة ملاعق صغيرة قذرة ... تقدم الليل وأصبح أكثر حلكة ، وما أنفك المطر ينهمر دون إنقطاع ، رفع المتدثر( مجيد ) البطانية عنه وصاح بنا مذكراً بوجوب عدم نسيان وقت القصعة ، لئلا يفوتنا العشاء الموعود ـ حيث كان الجوع ينهش بأنيابه بطوننا الخاوية ـ فاليوم عيدٌ ونحن فرحين وبإنتظار عشاء دسم لمناسبة العيد ، دجاج .. صمون حار .. وربما فاكهة .. لا بل استطيع القول ربما حلويات! ، اتفقنا نحن الثلاثة أن نقسم الأعمال فيما بيننا ، كان نصيبي من العمل غسل القصعة والأقداح والملاعق ، كوني أصغرهم سناً ، وعلى مجيد أن يرتب الغرفة ويعمّر الموقد ويعمل الشاي أما بايز العجوز فعليه أن يجلب القصعة كونه أكبرنا سناً وسوف يكرمونه بأكبر كمية من الدجاج والصمون الحار مع السوب طبعاً .. وبعد قلق ٍ وطول إنتظار سمعنا صافرة رئيس عرفاء الوحدة وهي تؤذن بإستلام وجبة العشاء المرتقب .. فإنطلق بايزاً مسرعاً يتخبط بين مطبات الوحل مترجياً طريقه وسط الظلام والمطر قاصداً مطبخ المراتب .. لكن بايز تأخر كثيراً في رحلة العودة ونحن قلقون وفي الانتظار على أحر من الجوع والجمر .. ولكن لا مانع لدينا ولا بأس من ذلك فعليه أن يسير ببطء حتى لا يتبدد الدجاج ، والمسافة كبيرة بين غرفتنا المعزولة وبين مطبخ المراتب ، رغم ذلك قلقنا عليه وتمنينا أن يكون سبب التأخير خيراً ... بين مكابدات اليأس والأمل فـُـتح باب الغرفة بركلة قوية ليطل علينا بايزاً وهو عابس الوجه يجر خلفه أذيال الخيبة والخذلان وثيابه مبللة ليخبرنا وهو يستشيط غضباً بأنه تشاجر مع ضابط الإعاشة المسؤول ، كون العشاء لهذا اليوم ما هو إلاّ ( مرقة هــواء ) مع الصمون اليابس ..! . ثرنا قليلاً وبدءنا نتذمر بصوت عال ..، ولكن بعد قليل هدءنا وتذكرنا إن هذه هي سياقات الجيش العراقي ... كما هي الحال دائماً .....
قصة قصيرة.. الترمز
شرق البصرة.. معركة الحصاد الأكبر
انه اليوم الأخير من انتهاء إجازتي الدورية ..... عندما حل المساء توجهت إلى محطة ( باب البيض ) في الموصل حيث كراج بغداد كي استقل حافلة ، لألتحق إلى وحدي العسكرية في قاطع شرق البصرة ..
وفي الكراج ..، تفا جئت ، حين لم أجد واسطة تقلني .. بل رأيت المئات من الجنود يتراكضون لاهثين ، كي يحضوا بواسطة نقل ، تقلهم إلى بغداد أو البصرة ... فأصبت بخيبة آمل كبيرة ... إذ انه لزاما علي أن أكون في وحدتي العسكرية قبل الثامنة صباحا .. وكان السيد آمرا لوحدة ، قد لمّح لي أن اجلب له كيلو غراما واحدا من الجرزات الموصلية الفاخرة ، مقابل منحي يوما واحدا مساعدة على إجازتي الدورية .. ، ويوم المساعدة هذا حق مشروع يمنح للمقاتلين الذين هم من سكنه المحافظات البعيدة ... ، ولكني تجاهلت الأمر .. أولا بسبب ضعف حالتي المادية .. وثانيا عدم قناعي بهكذا طلب...، أي إعطاء رشوة لأحد . . فكيف أذن ، والحال هكذا ...؟ ، أن أتأخر عن الالتحاق خلافا للموعد المقرر ، ومن دون جرزات هدية للسيد الآمر ....؟! لا بد أن في الأمر مشكلة ....
في هذه الأثناء دخلت المرأب حافلة نوع ريم حمراء .. فتزاحم الجنود حولها .. وانحشروا في داخلها ..، مع حجز المقاعد الأولى للضباط طبعا ... ولكني كنت مثقلا بحقيبتي الثقيلة ، ولم يتسنى لي آن احجز لي مكانا ، وبصعوبة كبيرة ، حشرت نفسي مع الجنود الواقفين في الحافلة وحضيت بمكان لا يتجاوز الثلاثين سنتمترا وقوفا في مؤخرة الحافلة التي كانت ستتجه رأسا إلى البصرة ....
وصلت ساحة سعد الشهيرة في البصرة ، عند السابعة والربع صباحا ، وثم استقلت راكبا في عجلة الللاندكروزر إلى وحدتي و م ط \5 في منطقة الجباسي خلف شط العرب باتجاه الجبهة ، فوصلت وحدتي عند الساعة الثامنة والربع .. الحمد لله ... لم أتأخر كثيرا عن الموعد ... اجتزت باب النظام ، وهرعت مسرعا إلى ملجأي ( مقر المفرزة الطبية ) حيث كانت وجبة الجنود المجازين قد التحقت صباح أمس ، وهم الآن في ساحة التدريب ، وبينما كنت منشغلا بتهيئة يطغي ( سريري) وتغيير بذلة النزول العسكرية ببذلة العراضات .. ، ومن ثم تسليم ورقة الأجازة الاعتيادية إلى قلم الوحدة ..، دخل علي مراسل الآمر ، يسألني عن الجرزات ... ! إذ أن السيد الآمر قد لمحني مع حقيبتي من خلال شباك غرفته ، وأنا ادخل باب النظام ... وهو الآن يطلب الجرزات التي وعدته بها .. وربما السجق والحلويات .. فمن يدري ..؟ ! ولكني صعقت للأمر .. ولم أنبت بشفة .. ، لأنني توقعت الموضوع مجرد مزحة منه .. ولكونني منقولا حديثا إلى هذه الوحدة العسكرية ، ولم أتعود تقديم هدايا للضباط آو تكوين علاقات مع أحدا منهم .. كما إنني لست بالجندي الاعتيادي .. كوني جندي خريج ولي شخصيتي المستقلة .. ومسئول المفرزة الطبية ...، لكن السيد الآمر يعتبرني أسوة ببقية الجنود .... فلا بأس ليعتبرني ما يشاء .. ولكن أن يطلب مني الرشوة ..؟! فذلك خطا أحمر ... ذهب مراسل الآمر ، بخفي حنين .. ونسيت ، بل تناسيت الأمر .. وبدأت بمزاولة عملي والتهيؤ للمكوث في الوحدة ثماني وعشرون يوما .. ولم يرسل الآمر في طلبي ... لكنه كان يدبر لي أمرا بليل .. !
عاودت مزاولة عملي في المفرزة الطبية بكتابة عيادات الجنود المرضى الذين سيأتون للمفرزة وتهيئة لستة بالأدوية التي احتاجها ، لجلبها من المذخر .. ثم فتشت مطبخ الضباط والمراتب وتأكدت من سلامة الأرزاق ووجود مياه الشرب .. ثم ذهبت إلى مستودع الأسلحة واستلمت بندقيتي .. حتى كانت الساعة تقارب الحادية عشرة ، حيث ظهرت طلائع الجنود المنسحبين من ساحة العرضات إلى داخل مقر الوحدة .. ثم تم توزيع الأرزاق ، مع صمون الجيش القاسي، ثم التقيت بزملائي من جنود المفرزة الطبية ، إلا مساعدي الذي كان قد غادر مساء أمس بأجازته الدورية ... قسّمت الواجبات الليلية على ورقة وأرسلت نسخة منها إلى قلم الوحدة ... إلى أن حان وقت (القصعة ) ، فتناولنا ما تيسر من الرز مع مرقه هواء الشهيرة .. وما إن ارتميت على السرير لأريح جسدي المنهك طوال الليل في الطريق ، حتى أذيعت أوامر القسم الأول بالمايكروفون وبصوت رع محمد القوي .. ولما كانت السماعة الكبيرة والوحيدة متجهة في اتجاه مقر المفرزة الطبية .. كما أن الهواء كان يهب في اتجاهنا ، حاملا ذلك الصوت الجهوري .. فكان أول ما أذيع من خبر هو أسماء المقاتلين من الذين تم تنسيبهم استخدام إلى لواء المشاة (418) ولمدة شهرين متتاليين ... وكان اسمي أول هذه الأسماء ... ن ع خ مكلف طبابة عسكرية (ج ف ز ) ، ينسب إلى الفوج الأول .. ن ع مطوع ( س م س) .... وهكذا خمسة مقاتلين إلى سرايا الفوج الخمسة بضمنهم سرية المقر طبعا .. لكني لم آبه للأمر رغم عدم وجود مساعدي ولم أعارض الأمر العسكري ، بل كنت أحبذ المجازفة وخوض غمار الحرب عن كثب على أن أكون جنديا خاملا خارج المعركة الحقيقية ، ورغم كوني منهكا جدا ، هيأت حالي ورزمت يطغي مرة أخرى وملأت زمزميتي بالماء ونظفت بندقيتي وربطت جعبة الرصاص على بطني .. وفي هذه الأثناء كانت الساعة قد قاربت الثانية ظهرا ، حضرت سيارة الايفا أمام المفرزة الطبية بصحبة السائق مع ملازم ثان لتنقلنا إلى اللواء الذي تم تنسيبنا إليه في عمق الشرق المحاذي لإيران ، خلف بحيرة الأسماك العتيدة ..رمينا يطغاتنا على ظهر عجلة الايفا ، ثم قفزنا مع ما بحوزتنا من أسلحة وعتاد وطعام ، وانطلقت بنا عجلة الايفا ، وثمة مسحة من الحزن والحيرة تفترش وجوهنا الكالحة .. بينما كانت العجلة تهدر وتسرع بنا ، كنا نسمع أصوات انفلاق المدفعية الثقيلة من بعيد ... ولما قاربت الساعة الرابعة والنصف عصرا وصلنا مقر الفوج الأول وتوقفت العجلة أمام ملجأ آمر الفوج .. وهو ملجأ محفور داخل الأرض ومغطى بالتراب والارامكو( صفيح مضلع) ، ضمن ساتر ترابي .... ، وبلمح البصر سلم الملازم الثاني كتاب تنسيبنا ، ثم استقل العجلة واقفل عائدا مع السائق إلى وحدتنا في المقرات الخلفية و م ط 5 فق 8 .. استقبلنا آمر الفوج ببرود ، ثم استدعى رئيس عرفاء الوحدة ، وأمر أن يقسمنا على سرايا الفوج الخمسة بما فيها سرية المقر التي تم تتسيبي إليها .. ودلني إلى ملجأ قريب محفور تحت الأرض ، قريبا من ملجأه المحصن ، لكوني أنا الوحيد من بين الخمسة المنسبين كنت ن ع خريج طبابة عسكرية ..
كان امرر الفوج عائدا توا من اجتماع الآمرين في قيادة الفيلق ..، وبما أن هذا اللواء الذي تم تتسيبي إليه قد تجحفل في موقع متقدم من الأراضي الإيرانية .. أي في ارض مشتركة متنازع عليها تسمى (اللسان ) ، حيث تدور معارك طاحنة كل يوم بين قواتنا والقوات الإيرانية للاستحواذ عليها والسيطرة على ارض المعركة ، لذلك فان خطة مدروسة قد وضعت لاستدراج العدو الإيراني المحتشد في الجانب الأخر ، وقد سلمت نسخة من الخطة الجهنمية والمهمة جدا بيد آمر الفوج الأول الذي نحن في ضيافته ، مع خريطة مهمة عن تفاصيل ارض المعركة .. ، لذا كانت من الأهمية حيث يعتمد عليها مصيرنا ومصير المئات من الضباط والجنود المرابطين في ذلك القاطع من جبهة القتال ، بل مستقبل الجيش والبلد أمام الرأي العام العالمي وعلى أعلى مستوى من القيادة .. إلا أن السيد آمر الفوج كان يبدو قلقا .. يتحرك هنا وهناك ، ويتفقد أحوال ومعنويات الجنود وأمراء السرايا وهم رابضون في مواضعهم القتالية ، وكان بصحبته (ترمز) ماء من البلاستك أينما حل وجال ، رغم إن الجو لم يكن ساخنا جدا ، كي يستوجب تكرار شرب الماء...
كان المساء يزداد حلكة وجنونا . . أصوات الانفجارات على طول خط الجبهة لا تهدا ويزداد الصوت وضوحا كلما دخلنا في الليل ، عاد السيد آمر الفوج من تفقد ثكنات الفوج .. السرايا والمقاتلين واطمئن من وصول قصعة العشاء لآخر جندي في آخر موضع قتالي ، لكن الجو كان مشحونا بالخطر ، كوننا منطقة حجابات وفي تماس مع القوات الإيرانية التي لا تنفك عن مباغتتنا أثناء الليل من اجل الحصول على موطئ قدم في الأرض التي في حوزتنا .. بدا القصف المدفعي يزداد ضراوة وأزيز الرصاص يتطاير وقنا بر التنوير تطلق في السماء ، فتكشف كل ما موجود على الأرض ، وتحيل ظلام الليل إلى نهار .. كانت عقارب الساعة قد اقتربت من الثانية عشرة ليلا .. حينما كان جسدي منهكا جدا كوني لم أذق طعم النوم ليلة البارحة وأنا في طريقي من الموصل إلى البصرة وقوفا داخل الحافلة ، حتى هذه اللحظة ، إذ قضيت النهار كله يقظا ، فلن أقوى على عمل شيء سوى الاستسلام للنوم داخل ملجآي محتضنا بندقيتي ، ثم غفوت إغفاءة عميقة في ظلام الملجأ غير آبه لما يدور في الخارج من هول ، لأن الوضع أصبح مألوفا في جبهة القتال معتقدا إنها مجرد مناوشات يومية وجس النبض .. لكن الأمر تطور وتمادى وخرج عن السيطرة إذ أن القوة الإيرانية المهاجمة كانت اكبر مما هو متوقع وحسب المعلومات الاستخبارية الواردة لمقر قيادة اللواء والفوج الأول ، ..والإيرانيون يتميزون بطبيعة مستميتة إثناء الهجوم .. فهم يهجمون بأعداد هائلة ، غير آبهين لحقول الالغام والنيران التي تطلق نحوهم ، كونهم يعتقدون انهم ذاهبون إلى كربلاء ، والتي تقع حسب اعتقادهم خلف هذه السواتر الترابية ! .. وهذا أهم شيء عندهم في هذه الحرب المقدسة ... !!
في هذه الأثناء أحسست بان يدا تهزني بقوة ، إذ كان السائق المدعو (عطيّش) وهو من أهل الناصرية يصيح بأسمي بأعلى صوته .. انهض .. انهض الإيرانيون دخلوا علينا ، نهضت على الفور مذعورا وتركت كل شيء خلفي ، إلا بندقيتي وجعبة الرصاص وأنا خارج من الموضع ، كان آخر ما تبقى من الجنود ينسحبون تحت جنح الظلام ، ويتركون مواضعهم مع أمراء الفصائل وفق انسحاب منظم ومدروس ، نظرت إلى ملجأ السيد آمر الفوج ، كان خاليا مهجورا معتما ، فأدركت بأن الوضع خطير ، أخذت أهرول خلف السائق عطيش وهو يدلني إلى الطريق حيث المقر البديل لفوجنا في منطقة المثابة .. بعد وصولي مع آخر ما تبقى من الجنود أجرى رئيس عرفاء الوحدة التعداد للتأكد من انسحاب آخر جندي من ارض المعركة ، لكني انتبهت للسيد آمر الفوج الرائد (محمد) ، كان قلقا جدا غاضبا يصيح ويزعق في وجه الضباط والجنود ويضرب كفا بكف ، كونه نسي الترمز الذي كان يرافقه أينما حل وذهب ، فتعجبت من تفاهة الأمر وانفرجت على شفتاي ابتسامة ساخرة ، لم يلحظها احد وسط الظلام الدامس .. لكن السيد آمر الفوج لم يكف عن الزعيق والصراخ موجها كلامه إلى مساعده النقيب جعفر وآمر سرية المقر متهما إياهما بالإهمال والتقصير .. إذ كان مصرا على إعادة ذلك الترمز الغريب بأي ثمن كان .. فلم يتطوع أحدا من الجنود بالمجازفة والرجوع إلى المقر القديم لإحضاره .. ومن دون شعور مني تقدمت وأديت التحية للسيد الآمر أمام حيرة ودهشة الضباط والجنود .. وسألته سيدي أين استطيع أن أجد الترمز .. هل أستطيع إحضاره لك ..؟! ، فصمت الآمر واتسعت حدقتاه ، وهو يتفحصني وسط الظلام ، ثم قال أليس أنت الجندي الاستخدام الذي جاء اليوم ..؟! قلت نعم سيدي ... خيم صمت رهيب على الجمع الواقف .. ثم صاح الآمر بسرعة انه موجود تحت سريري داخل الملجأ .. أحقا تستطيع إحضاره .. أعطيك إجازة سبعة أيام ... عشرة ... كم تريد .. فقط احضر ذلك الترمز اللعين ..
بما إن ملجأي كان قريبا من ملجأ الآمر المحصن ، لذلك استطيع بسهولة تمييز مكانه ، ومن أجل إنهاء المشكلة ، تطوعت أن أجازف بحياتي ، فتقدمت لهذا الأمر ، إضافة إلى حاجتي الماسة للأجازة من اجل العودة إلى دياري للقاء محبوبتي ، والتقدم لخطبتها ...
لذا ازداد إصراري ولهفتي لإحضار ذلك الترمز مهما كلف الأمر ..
قال لي الآمر خذ معك ما تحتاجه من العتاد والرمانات الدفاعية والهجومية .. وسأتدبر خمسة من أشجع الجنود لحمايتك وإسناد ظهرك ... المهم أن تأتيني بالترمز ... ولك ما تريد .... ثم أمر باستدعاء خمسة من الجنود من عدة حظائر في السرية الأولى ، ورافقوني على مضض متذمرين من سذاجتي وبلاهة عقلي ، وانطلقنا تحت جنح الظلام .. بعد أن تزود كل منا ببندقية مع مائتان وأربعون أطلاقة ، ورمانتين دفاعيتين .. كنا نتقدم بحذر شديد نحو الأرض التي انسحبنا منها ، متوخين حقول الألغام ومشاعل العثرة ... وما هي إلا نصف ساعة ، حتى بان ملجأ الآمر تحت ضوء القمر الخافت ، فتركني الجنود الخمسة على مسافة مائة وخمسون مترا ، متخذين مواقعهم للمراقبة والدفاع في حذر وتوجس .. ثم بدأت ازحف على بطني ببطيء حتى ملجأ الآمر حذرا، متفحصا المكان رويدا رويدا .. لما وصلت باب الملجأ لم يكن هناك جنود إيرانيون بداخله ... بل كان باب الدخول إليه محطما بواسطة قذيفة آر بي جي 7 خاصة بالتحصينات ، وكان معتما من الداخل ، مهجورا ... فقلت لنفسي ( الحمد لله .. لا يوجد احد هنا ) ثم ولجت إلى الداخل في وسط الظلام الدامس وتحت الأنقاض المحطمة والغبار والدخان وبدأت ابحث متوجسا بيدي اليمنى بحذر شديد ، وانأ أشعل أعواد الثقاب ، الواحد تلو الآخر .. وما هي إلا لحظات حتى لمست يدي جسما بلاستيكيا أملسا ، فسحبته بسرعة ، كان خفيفا خال من الماء ، فتعجبت من خفته وتشبث الآمر به واهتمامه به ، لكنه كان مقفلا بإحكام بواسطة شريط لاصق، فهممت بالخروج من الملجأ ، متفحصا الأجواء ، فلم أجد أحدا ، إلا بعض الأصوات واللغط لم افهم منه شيئا .. أنهم الجنود الإيرانيون يحتفلون بالنصر خلف هذا الساتر الترابي ... كان دوي المدافع وأزيز الرصاص قد هدأ قليلا ، عندما كانت الساعة تقارب الرابعة فجرا ...، قفلت زاحفا بصعوبة بالغة بصحبة الترمز مع البندقية والعتاد ، وكانت الثواني تمر علي كأنها ساعات طويلة حتى اقطع هذه المائة وخمسون مترا المتبقية ، لأوافي رفاقي المقاتلين الذين ينتظرونني خلف الكثبان الترابية المتشعبة .. حتى أصبحت قريبا منهم فعرفوني ، وهم يهمسون بصوت رهيف .. أبقى منبطحا على الأرض لا تنهض لئلا يرصدونك ... حتى اجتزت التلة الترابية ، فنهضت واقفا على قدمي .. وبدأت أهرول ببطء متوسطا الجنود الخمسة الذين كلفوا بحمايتي إلى منطقة المثابة حيث يتجحفل فوجنا ... ووسط ذلك الصمت والظلام والسكون الرهيب ، صرخ بنا صوت مدوي شل أوصالنا ، صائحا بنا ( قـــــــــــــــــف ).. سر الليل... وعلى الفور أدرك احد الجنود الخمسة من انه صوت رئيس عرفاء السرية ( سامي جلوب ) ، فرد عليه نحن جماعة الترمز.. جماعة الترمز .. نحن الفوج الأول .. إذ أن الآمر كان قد أرسل قوة قتالية أخرى في أثرنا لحمايتنا ، ولكي يدلونا على الطريق ، فصاح هل أحضرتم الترمز .. ؟ أجبته نعم .. ريّس نعم .. أحضرنا الترمز .. وفي هذه الأثناء اشتعلت الأرض التي خلفنا ، بنيران المدافع والهاونات وراجمات الصواريخ .. فتحولت إلى جحيم .. هرولنا جميعا حتى المقر البديل لفوجنا ، حيث كان الآمر والضباط في انتظارنا على أحر من الجمر ، فتقدم الآمر نحوي مسرعا وانتشل الترمز من يدي بقوة وفتحه .. ومد يده في داخله واخرج منه ورقة كارتونية ... وتنفس الصعداء وهو يردد الحمد لله .. الحمد لله ...
الخطة موجودة في الترمز ... اندهشت للأمر وأنا أشاهد تلك الورقة من الكارتون .. على نور ضياء الفجر الأول .. ثم علمت بان الترمز كان بداخله الخطة الحربية المرسومة للقطاعات في اجتماع الفيلق ، مع خارطة لجميع المواقع المهمة .. حيث تقوم الخطة على انسحاب قواتنا لاستدراج قوات العدو وثم دكها بالصواريخ وقنا بر المدفعية الثقيلة ، لتكبيد العدو اكبر عدد من الخسائر بالأرواح والمعدات .. لكن السيد آمر الفوج كان قد أخفى الخطة الحربية في داخل ذلك الترمز .. ونسي الترمز في الملجأ عندما شاهد بالناظور الليلي قوة من الجنود الإيرانيين تتقدم نحوه ، فهرب ، لكي لا يصبح صيدا ثمينا في قبضتهم . ولئلا تقع تلك الخطة في يد الأعداء فيكون مصيره ومصيرنا الهلاك المحتوم .. في الحقيقة إن الله وحده هو الذي نجاني وأنقذني من تلك المغامرة الخطيرة ، وبسبب سذاجتي وقلة خبرتي في جبهات القتال .. وبسبب حبي الكبير وتعلقي بمن أحببت أقدمت على المجازفة بحياتي لكي احظي بأجازة لقضاء اكبر وقت مع حبيبتي .. هناك على ضفاف نهر دجلة في الموصل ..
ولو كنت قد تأخرت عشرة دقائق أخرى لكنت الآن في خبر كان وتحولت إلى أشلاء ممزقة ، بسبب تلك الخطة المرسومة ، والتي تقضي بالانسحاب الجزئي .. ثم دك تلك المواقع بالمدفعية الثقيلة .... علما بأن السيد الآمر لم يًعلم أحدا من القادة والمراجع بأمر فقدان الخطة الأمنية .. وأنه أرسل من يعيدها ....
شرق البصرة\ 1987 بقلم \ جميل فرنسيس
مواضيع مماثلة
» قصائد و مقالات الشاعر جميل فرنسيس مراسلكم ناظم هرمز جكو :تللسقف
» المسافرة : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
» و حــــدة : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
» سباق : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
» انتظار : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
» المسافرة : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
» و حــــدة : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
» سباق : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
» انتظار : للشاعرة : ليزا ناظم هرمز جكو كورو
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى